هل نحن شعب ينسى أم يُنَسَّى؟ هل نحن شعب أصيب بـ”الزهايمر”، فأصبح يفقد الذاكرة، حتى لم تعد تترك فيه عوادي الـ”الحكرة” والسخرية، والفساد، والاستبداد،… علامات للتذكر والذكرى؟. أم نحن ظرفاء، وطيبون؛ نسامح، ونعفو حتى على متعمدي الإساءة إلينا، والسخرية منا،… فأصبحنا نعيش على فائضٍ من أريحية العفو، حتى تحولت احتجاجاتنا، ورفضنا، إلى مجرد انفعالات مؤقتة، وعابرة، وعاها الآخرون فتمادَوا في ترسيخ “مرفوضاتنا”، والسخرية من صراخنا الطفولي، الذي لا يلبث أن يهدأ مع مرور الوقت، ويصير الحال إلى سالفه؛ أدهى هتكا، وأشد جرأة؟!!.
نعم، لقد مرت علينا حوادث وأحداث، انتفضنا خلالها ضد السخرية، والظلم، و”الحكرة”، والفساد،… فتوقفت احتجاجاتنا عند صراخ أججناه في المواقع والمنابر، وفي الصالونات والجامعات، وفي المسارح والمنتديات؛ لكن لم يبلغ مداه، ليتوقف عند “ويل للمصلين” !. وانخدع الجميع بوعود، أغلبها إشاعات، عن توقف ماكينة التدمير الأخلاقي، والأسري، والاجتماعي. فسمعنا عن تدخل، هنا وهناك، لإيقاف نزيف الهتك الأخلاقي، والثقافي، والمالي، ووعود بالاستجابة لصراخنا، والنزول عند مطالبنا. حتى انتهى التذمر والسخط، إلى انتظارٍ أعقبه هدوءٌ، ثم صمت، فنسيان.
ففي مثل هذه الأيام، انتفض “شعب” الفيسبوك، ومعه عقلاء الأمة وراشدوها، ضد الانتهاك الذي توَلَّت كِبْرَه إحدى القنوات العمومية، حينما نقلت على المباشر الرقصات الأيروتيكية للمدعوة “لوبيز”، التي لم تترك للعري ما يستره !، في تحدٍّ سافر لمشاعر المواطنين والمواطنات المغاربة. فاستمرت الاحتجاجات ردحا من الزمن؛ ساءل خلالها الفيسبوكيون، والمثقفون، والعلماء، والسياسيون، وعموم الشعب المغربي، هذا المهرجان، ومنظميه، ومحتضنيه. وطالبوا، بقوة، بإلغائه، وإلزام مموليه ومحتضنيه، بتحويل مصاريف إقامته لمشاريع النهوض بالتعليم، والصحة، والشغل،… وإحياء الأنفس السادرة في الفقر والحاجة،… هناك في المغرب العميق.
فتفاعل الجميع؛ كبارا وصغارا، سياسيين ومدنيين، علماء ومهتمين، رياضيين وفنانين،…مع مطلب الإلغاء. وازدادت حدة المطالبة بهذا الإلغاء، بعد الخطإ الجسيم الذي ارتكبته القناة التليفزيونية إياها، واشتد الإلحاح على القطع مع هذا “المرفوض” الشعبي.
غير أنه في أثناء هذا الخضم المتلاطم، تحرك الدهاة، مستغلين طيبوبة المغاربة، وحسن نيتهم، وأخذوا يروجون لقرب صدور قرار بمنع هذا المهرجان خلال العام القابل، أو بالاكتفاء، كأضعف الإيمان، بتحويله إلى مهرجان وطني، لتشجيع المنتوج الفني الوطني. فكان لهذه الإشاعات وقع البلسم الذي يقع على الجرح؛ حيث بدأت الأصوات تخفت، والاحتجاجات الفيسبوكية تنحصر إلى مشاركات قليلة ومتفرقة، بل زادت الأماني ترسم صورة لعام بدون”موازين” أو بالأحرى بدون ملايير لوبيز، وتْسِي، وهيفاء، ونانسي،… فانتصر النسيان مرة أخرى، ووجم الصمت والرضا، على الصارخين والصارخات. وانتهت الجوقة، في انتظار تحقق وَعْد/ إشاعة الإلغاء.. حتى هَلَّ شهر شعبان الكريم، وهَلَّتْ معه وصلات القناة إياها، تبشر المغاربة بقرب بدء فعاليات المهرجان في نسخته الخامسة عشر، وقرب حلول ضيوف المغرب الكريم من مختلف أصقاع العالم، لمواصلة حلب الملايير؛ كأنْ لا شيء وقع !.
إنه النسيان الذي يفعل فينا فعله. فبالأمس القريب، جرب “شعب” الفيسبوك صراخه ضد الريع السياسي الذي يتربع عليه المتقاعدون من الوزراء والبرلمانيين، فبحَّ صوته وهو يستنكر هذا الإسهال في إهدار مالٍ عام كان أولى به كادحو وكادحات هذا الشعب؛ حتى انخرط البرلمانيون والوزراء، أنفسهم، في استنكار هذا الفساد، والدعوة للقطع معه( !!). لكن ما لبث داء النسيان أن دب في الصفوف من جديد، وانتهت الجوقة إلى صوت مريب، غطت عليه انتفاضة الأساتذة المتدربين، وحراك النقابات، وحوارها المغشوش مع حكومة لا ينفك رئيسها يُذَكِّر، كل مرة يَهُمُّ فيها بتمرير إحدى قراراته المؤلمة، بصبر المغاربة، وطيبوبتهم، وتَفَهُّمِهِم .. وإن كان نسيانهم المستمر، وتنازلهم السريع عن مطالبهم، هو ما يبقي لهذه الحكومة أمل الاستمرار، رغم الأخطاء التي ارتكبتها في حقهم، وفي حق معيشهم اليومي.
وهو كذلك النسيان، الذي جعل المغاربة لا يُذَكِّرون الحزب الحاكم بمواقف كان يسجلها أيام المعارضة، حينما كان يحاكم الحكومات السابقة على مسؤوليتها في السماح بوجود مهرجان، اسمه “موازين”، يهدر المال، ويدمر الأخلاق، ويلهي الطلبة عن امتحاناتهم، والشعب عن انتظاراته، والأمة عن قضاياها الحقيقية… قالوا!!.
وهكذا سيبقى النسيان..وهكذا سيستمر “موازين” إلى إشعار آخر!!
دمتم على وطن.. !!.